سورة الأعراف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
في الأية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: {المص} أنا الله أفصل، وعنه أيضاً: أنا الله أعلم وأفصل، قال الواحديّ: وعلى هذا التفسير فهذه الحروف واقعة في موضع جمل، والجمل إذا كانت ابتداء وخبراً فقط لا موضع لها من الإعراب، فقوله: أنا الله أعلم، لا موضع لها من الأعراب، فقوله: أنا مبتدأ وخبره قوله: الله وقوله: أعلم خبر بعد خبر، وإذا كان المعنى {المص} أنا الله أعلم كان إعرابها كإعراب الشيء الذي هو تأويل لها، وقال السُّدّيّ: {المص} على هجاء قولنا في أسماء الله تعالى أنه المصور.
قال القاضي: ليس هذا اللفظ على قولنا: أنا الله أفصل، أولى من حمله على قوله: أنا الله أصلح، أنا الله أمتحن، أنا الله الملك، لأنه إن كانت العبرة بحرف الصاد فهو موجود في قولنا أنا الله أصلح، وإن كانت العبرة بحرف الميم، فكما أنه موجود في العلم فهو أيضاً موجود في الملك والامتحان، فكان حمل قولنا: {المص} على ذلك المعنى بعينه محض التحكم، وأيضاً فإن جاء تفسير الألفاظ بناء على ما فيها من الحروف، من غير أن تكون تلك اللفظة موضوعة في اللغة لذلك المعنى، انفتحت طريقة الباطنية في تفسير سائر ألفاظ القرآن بما يشاكل هذا الطريق.
وأما قول بعضهم: إنه من أسماء الله تعالى فأبعد، لأنه ليس جعله إسماً لله تعالى، أولى من جعله اسماً لبعض رسله من الملائكة، أو الأنبياء، لأن الاسم إنما يصير اسماً للمسمى بواسطة الوضع والاصطلاح، وذلك مفقود هاهنا، بل الحق أن قوله: {المص} اسم لقب لهذه السورة، وأسماء الألقاب لا تفيد فائدة في المسميات، بل هي قائمة مقام الإشارات، ولله تعالى أن يُسَميّ هذه السورة بقوله: {المص} كما أن الواحد منا إذا حَدَثَ له ولد فإنه يسميه بمحمد.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {المص} مبتدأ، وقوله: {كِتَابٌ} خبره، وقوله: {أَنزِلَ إِلَيْكَ} صفة لذلك الخبر. أي السورة المسماة بقولنا: {المص كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ}.
فإن قيل: الدليل الذي دل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هوأن الله تعالى خصه بإنزال هذا القرآن عليه، فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته، وما لم نعرف نبوته، لا يمكننا أن نحتج بقوله، فلو أثبتنا كون هذه السورة نازلة عليه من عند الله بقوله: لزم الدور.
قلنا: نحن بمحض العقل نعلم أن هذه السورة كتاب أنزل إليه من عند الله. والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام ما تلمذ لأستاذ، ولا تعلم من معلم، ولا طالع كتاباً ولم يخالط العلماء والشعراء وأهل الأخبار، وانقضى من عمره أربعون سنة، ولم يتفق له شيء من هذه الأحوال، ثم بعد انقضاء الأربعين ظهر عليه هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأولين والآخرين، وصريح العقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى. فثبت بهذا الدليل العقلي أن {المص} كتاب أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه وإلهه.
المسألة الثانية: احتج القائلون بخلق القرآن بقوله: {كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ} قالوا إنه تعالى وصفه بكونه منزلاً، والإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال، وذلك لا يليق بالقديم، فدل على أنه مُحْدَث.
وجوابه: أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو هذه الحروف، ولا نزاعَ في كونها مُحْدَثة مخلوقة، والله أعلم.
فإن قيل: فهب أن المراد منه الحروف، إلا أن الحروف أعراض غير باقية، بدليل أنها متوالية، وكونها متوالية يشعر بعدم بقائها، وإذا كان كذلك، فالعَرَض الذي لا يبقى زمانين، كيف يعقل وصفه بالنزول؟
والجواب: أنه تعالى أحدث هذه الرقوم والنقوش في اللوح المحفوظ، ثم إن الملك يطالع تلك النقوش، وينزل من السماء إلى الأرض، ويعلم محمداً تلك الحروف والكلمات، فكان المراد بكون تلك الحروف نازلة، هو أن مبلغها نزل من السماء إلى الأرض بها.
المسألة الثالثة: الذين أثبتوا لله مكاناً تمسكوا بهذه الآية فقالوا: إنّ كلمة من لابتداء الغاية. وكلمة إلى لانتهاء الغاية. فقوله: {أُنزِلَ إِلَيْكَ} يقتضي حُصول مَسافة مبدؤها هو الله تعالى وغايتها محمد، وذلك يدل على أنه- تعالى- مختص بجهة فوق، لأن النزول هو الانتقال من فوق إلى أسفل.
وجوابه: لما ثبت بالدلائل القاهرة أن المكان والجِهة على الله تعالى محال وجب حمله على التأويل الذي ذكرناه، وهو أن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل.
ثم قال تعالى: {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} وفي تفسير الحرج قولان: الأول: الحرج الضيق، والمعنى: لا يضيق صدرك بسبب أن يكذبوك في التبليغ.
والثاني: {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} أي شك منه، كقوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] وسمي الشك حرجاً، لأن الشاك ضيق الصدر حرج الصدر، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسح القلب.
ثم قال تعالى: {لِتُنذِرَ بِهِ} هذه اللام بماذا تتعلق؟ فيه أقوال: الأول: قال الفراء: إنه متعلق بقوله: {أَنزِلَ إِلَيْكَ} على التقديم والتأخير، والتقدير: كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه.
فإن قيل: فما فائدة هذا التقديم والتأخير؟
قلنا: لأن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر، فلهذا السبب أمره الله تعالى بإزالة الحرج عن الصدر، ثم أمره بعد ذلك بالإنذار والتبليغ.
الثاني: قال ابن الأنباري: اللام هاهنا بمعنى: كي. والتقدير: فلا يكن في صدرك شك كي تنذر غيرك.
الثالث: قال صاحب النظم: اللام هاهنا: بمعنى: أن. والتقدير: لا يضق صدرك ولا يضعف عن أن تنذر به، والعرب تضع هذه اللام في موضع أن قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} [التوبة: 32] وفي موضع أخر {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ} [الصف: 8] وهما بمعنى واحد.
والرابع: تقدير الكلام: أن هذا الكتاب أنزله الله عليك، وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى، فاعلم أن عناية الله معك، وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج، لأن من كان الله حافظاً له وناصراً، لم يخف أحداً، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب، فاشتغل بالإنذار والتبليغ والتذكير اشتغال الرجال الأبطال، ولا تبال بأحد من أهل الزيغ والضلال والإبطال.
ثم قال: {وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: يريد مواعظ للمصدقين.
قال الزجاج: وهو اسم في موضع المصدر.
قال الليث: الذكرى اسم للتذكرة، وفي محل ذكرى من الإعراب وجوه قال الفراء: يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: لتنذر به ولتذكر، ويجوز أن يكون رفعاً بالرد على قوله: {كِتَابٌ} والتقدير: كتاب حق وذكرى، ويجوز أيضاً أن يكون التقدير، وهو ذكرى، ويجوز أن يكون خفضاً، لأن معنى لتنذر به، لأن تنذر به فهو في موضع خفض، لأن المعنى للإنذار والذكرى.
فإن قيل: لم قيد هذه الذكرى بالمؤمنين؟
قلنا: هو نظير قوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] والبحث العقلي فيه أن النفوس البشرية على قسمين: نفوس بليدة جاهلة، بعيدة عن عالم الغيب، غريقة في طلب اللذات الجِسْمانية، والشهوات الجسدانية ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة بالحوادث الروحانية، فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول، إنذار وتخويف، فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة، احتاجوا إلى موقظ يوقظهم، وإلى منبه ينبههم.
وأما في حق القسم الثاني فتذكير وتنبيه، وذلك لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصَّمدية، إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم، فيعرض لها نوع ذهول وغفلة، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى، تذكرت مركزها وأبصرت منشأها، واشتاقت إلى ما حصل هنالك من الروح والراحة والريحان، فثبت أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذاراً في حق طائفة، وذكرى في حق طائفة أخرى، والله أعلم.


{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}
اعلم أن أمر الرسالة إنما يتم بالمرسل وهو الله سبحانه وتعالى والمرسل وهو الرسول، والمرسل إليه، وهو الأمة، فلما أمر في الآية الأولى الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي، وعزم صحيح أمر المرسل إليه. وهم الأمة بمتابعة الرسول. فقال: {اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الحسن: يا ابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله.
واعلم أن قوله: {اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} يتناول القرآن والسنة.
فإن قيل: لماذا قال: {أُنزِلَ إِلَيْكُمُ} وإنما أنزل على الرسول.
قلنا: إنه منزل على الكل بمعنى أنه خطاب للكل.
إذا عرفت هذا فنقول: هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله تعالى. والله تعالى أوجب متابعته، فوجب العمل بعموم القرآن ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس، وإلا لزم التناقض.
فإن قالوا: لما ورد الأمر بالقياس في القرآن. وهو قوله: {فاعتبروا} [الحشر: 2] كان العمل بالقياس عملاً بما أنزل الله.
قلنا: هب أنه كذلك إلا أنا نقول: الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس، لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس.
وأما عموم القرآن، فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة، ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر، فكان الترجيح من جانبنا. والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} قالوا معناه ولا تتولوا من دونه أولياء من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع.
ولقائل أن يقول: الآية تدل على أن المتبوع إما أن يكون هو الشيء الذي أنزله الله تعالى أو غيره.
أما الأول: فهو الذي أمر الله باتباعه.
وأما الثاني: فهو الذي نهى الله عن اتباعه، فكان المعنى أن كل ما يغاير الحكم الذي أنزله الله تعالى فإنه لا يجوز إتباعه.
إذا ثبت هذا فنقول: إن نفاة القياس تمسكوا به في نفي القياس. فقالوا الآية تدل على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس متابعة لغير ما أنزله الله تعالى، فوجب أن لا يجوز.
فإن قالوا: لما دل قوله فاعتبروا على العمل بالقياس كان العمل بالقياس عملاً بما أنزله الله تعالى أجيب عنه بأن العمل بالقياس، لو كان عملاً بما أنزله الله تعالى، لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافراً لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] وحيث أجمعت الأمة على عدم التكفير علمنا أن العمل بحكم القياس ليس عملاً بما أنزله الله تعالى، وحينئذ يتم الدليل.
وأجاب عنه مثبتو القياس: بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وما ذكرتموه تمسك بظاهر العموم، وهو دليل مظنون والقاطع أولى من المظنون.
وأجاب: الأولون بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} [النساء: 115] وعموم قوله: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وعموم قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] وبعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» وعلى هذا فإثبات كون الإجماع حجة، فرع عن التمسك بالعمومات، والفرع لا يكون أقوى من الأصل.
فأجاب مثبتو القياس: بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في أثبات القياس قويت القوة وحصل الترجيح. والله أعلم.
المسألة الثالثة: الحشوية الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية، تمسكوا بهذه الآية وهو بعيد لأن العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية، فلو جعلنا القرآن طاعناً في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل.
المسألة الرابعة: قرأ ابن عامر {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] بالياء تارة والتاء أخرى.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وتخفيف الذال، والباقون بالتاء وتشديد الذال.
قال الواحدي رحمه الله: تذكرون أصله تتذكرون فأدغم تاء تفعل في الذال لأن التاء مهموسة، والذال مجهورة والمجهور أزيد صوتاً من المهموس، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد، وما موصولة بالفعل وهي معه بمنزلة المصدر. فالمعنى: قليلاً تذكركم، وأما قراءة ابن عامر {يَتَذَكَّرُونَ} بياء وتاء فوجهها أن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب، وأما قراءة حمزة والكسائي وحفص، خفيفة الذال شديدة الكاف، فقد حذفوا التاء التي أدغمها الأولون، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة والله أعلم.
قال صاحب الكشاف: وقرأ مالك بن دينار ولا تبتغوا من الابتغاء من قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} [آل عمران: 85].


{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}
اعلم أنه تعالى لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ، وأمر القوم بالقبول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: موضع كم رفع بالابتداء وخبره أهلكناها. قال: وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب لأن قولك زيد ضربته أجود من قولك زيداً ضربته، والنصب جيد عربي أيضاً كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
المسألة الثانية: قيل: في الآية محذوف والتقدير: وكم من أهل قرية ويدل عليه وجوه:
أحدها: قوله: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} والبأس لا يليق إلا بالأهل.
وثانيها: قوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فعاد الضمير إلى أهل القرية.
وثالثها: أن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بإهلاكهم.
ورابعها: أن معنى البيات والقائلة لا يصح إلا فيهم.
فإن قيل: فلماذا قال أهلكناها؟ أجابوا بأنه تعالى رد الكلام على اللفظ دون المعنى كقوله تعالى: {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ} [الطلاق: 8] فرده على اللفظ. ثم قال: {أَعَدَّ الله لَهُمْ} [الطلاق: 10] فرده على المعنى دون اللفظ، ولهذا السبب قال الزجاج: ولو قال فجاءهم بأسنا لكان صواباً، وقال بعضهم: لا محذوف في الآية والمراد إهلاك نفس القرية لأن في إهلاكها بهدم أو خسف أو غيرهما إهلاك من فيها، ولأن على هذا التقدير يكون قوله: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} محمولاً على ظاهره ولا حاجة فيه إلى التأويل.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: قوله: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا} يقتضي أن يكون الإهلاك متقدماً على مجيء البأس وليس الأمر كذلك، فإنّ مجيء البأس مقدم على الإهلاك والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه:
الأول: المراد بقوله: {أهلكناها} أي حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا.
وثانيها: كم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6].
وثالثها: أنه لو قال وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال وارداً فكذا هاهنا لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس. فإن قالوا: السؤال باق، لأن الفاء في قوله: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} فاء التعقيب، وهو يوجب المغايرة. فنقول: الفاء قد تجيء بمعنى التفسير كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه» فالفاء في قوله فيغسل للتفسير، لأن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه. فكذلك هاهنا البأس جار مجرى التفسير، لذلك الإهلاك، لأن الإهلاك، قد يكون بالموت المعتاد، وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم، فكان ذكر البأس تفسيراً لذلك الإهلاك.
الرابع: قال الفراء: لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معاً كما يقال: أعطيتني فأحسنت، وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله، وإنما وقعا معاً فكذا هاهنا، وقوله: {بَيَاتًا} قال الفراء يقال: بات الرجل يبيت بيتاً، وربما قالوا بياتاً قالوا: وسمي البيت لأنه يبات فيه.
قال صاحب الكشاف: قوله: {بَيَاتًا} مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين وقوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فيه بحثان:
البحث الأول: أنه حال معطوفة على قوله: {بَيَاتًا} كأنه قيل: فجاءها بأسنا بائتين أو قائلين.
قال الفراء: وفيه واو مضمرة، والمعنى: أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو وهم قائلون، إلا أنهم استثقلوا الجمع بين حرفي العطف، ولو قيل: كان صواباً، وقال الزجاج: أنه ليس بصواب لأن واو الحال قريبة من واو العطف، فالجمع بينهما يوجب الجمع بين المثلين وأنه لا يجوز، ولو قلت: جاءني زيد راجلاً وهو فارس لم يحتج فيه إلى واو العطف.
البحث الثاني: كلمة أو دخلت هاهنا بمعنى أنهم جاءهم بأسنا مرة ليلاً ومرة نهاراً، وفي القيلولة قولان: قال الليث: القيلولة نومة نصف النهار.
وقال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل عليه: أن الجنة لا نوم فيها والله تعالى يقول: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] ومعنى الآية أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له، إما ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون، والمقصود: أنهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب، فكأنه قيل: للكفار لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ، فإن عذاب الله إذا وقع، وقع دفعة من غير سبق أمارة فلا تغتروا بأحوالكم.
ثم قال تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} قال أهل اللغة: الدعوى اسم يقوم مقام الادعاء، ومقام الدعاء. حكى سيبويه: اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين، ودعوى المسلمين.
قال ابن عباس: فما كان تضرعهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فأقروا على أنفسهم بالشرك.
قال ابن الأنباري: فما كان قولهم إذ جاءهم بأسنا إلا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإساءة وقوله: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} الاختيار عند النحويين أن يكون موضع أن رفعاً بكان ويكون قوله: {دَعْوَاهُمْ} نصباً كقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [النمل: 56] وقوله: {فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِي النار} [الحشر: 17] وقوله: {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن} [الجاثية: 25] قال ويجوز أن يكون أيضاً على الضد من هذا بأن يكون الدعوى رفعاً، و{أن قالوا} نصباً كقوله تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ} [البقرة: 177] على قراءة من رفع البر، والأصل في هذا الباب أنه إذا حصل بعد كلمة كان معرفتان فأنت بالخيار في رفع أيهما شئت، وفي نصب الآخر كقولك كان زيد أخاك وإن شئت كان زيداً أخوك.
قال الزجاج: إلا أن الاختيار إذا جعلنا قوله: {دَعْوَاهُمْ} في موضع رفع أن يقول: {فَمَا كَانْ دَعْوَاهُمْ} فلما قال: كان دل على أن الدعوى في موضع نصب، ويمكن أن يجاب عنه بأنه يجوز تذكير الدعوى، وإن كانت رفعاً فتقول: كان دعواه باطلاً، وباطلة، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8